القطار السياسي / الفنان عبـــو شيخ فرمان ما تعودت أن أنام مبكراً أبداً منذ الصغر والى الآن، ولكني حاولت أن أختصر ليلتي فأويت الى فراشي عليّ أكسر روتين سهري وأطبق أجفاني لتسافر عينايّ في نوم عميق.
بيد أن حلمي الذي كان يراودني في سفر الصباح المبكر وأشواقي التي كانت تنعش تخيلاتي أبيا أن يعرف النعاس طريقه الى سريري فقضيت الليلة منتظراً بزوغ الفجر، ومنتظراً الرحلة التي طالما آمنت أنها ستغير مجرى حياتي فبقيت على هذا المنوال الا أن أشرقت شمس الصباح عليّ.
وحين لاحت خيوط الصباح همهمت بتحضير حقيبتي الكبيرة التي أودعتها حاجياتي وملابسي ثم وضعت أوراقي وجواز سفري وبطاقة السفر في حقيبتي الدبلوماسية وحملت رفقيتي التي بها ومن أجلها سأبدأ مشواري،حملتها على كتفي تمبورتي ( آلة البزق )وبدأت أخطو صوب الباب.خرجت من شقتي في الساعة الثامنة ووصلت محطة القطار الموعود بعد نصف ساعة أي قبل موعد إنطلاقه بثلاثين دقيقة وما أن وصلت المكان حتى بدأ القطار بالحراك ورغم أني لمست أزرار الباب إلا أن القطار لم يستجب والجابي الذي أغلق الابواب لم يأبه ولم يستدر وفي تلك الاثناء أحسست أن حلمي قد تلاشى وأن كل شيء إنتهى ولكن أيعقل أن أستسلم بهذا الشكل..؟أدرت نظري يميناً وشمالاً فلاح أمام ناظري عامل محطة القطار فتوجهت اليه على عجل وإستفسرت منه عن سبب مغادرة القطار قبل حينه فهز رأسه وقال أن هذا القطار هو الوحيد الذي لا يلتزم بمواعيد الوصول والمغادرة وأردف قائلاً بأني أستطيع السفر بالقطار الذي يليه فقاطعته بأن هذا القطار هو الوحيد الذي سيوصلني الى حيث أريد فلم يسأل العامل في محطة القطار عن وجهتي ولكنه قال بأن هذا القطار بطيء جداً وأن بإمكاني اللحاق به إن أردت على أن أبذل في ذلك جهداً وأن لا أدخر عنه طاقةً أو قوة.فدلني على الطريق الذي يتوجب علي أن أسلكه وأسرعت في الاتجاه الذي أشر اليه والطريق الذي وصفه وأظطررت أن أترك حقيبة السفر قبل كل شيء وهكذا ركضت مسرعاً لألحق بالقطار البطيء.
كان الطريق الذي سلكته صعباً تملئه العثرات ولكنني واصلت الى أن وصلت حقلاً كبيراً فاقتحمته وبعد أن قطعت قرابة نصف المسافة منه أدركت أن من الصعب الاحتفاظ بحقيبة أوراقي التي باتت تعرقلني عن اللحاق بالقطار فأخرجت منها الجواز وبطاقة السفر وتركتها هناك فلم يبقى بيدي سوى بزقي. وبعد أن انقشعت آخر وريقات الحقل عن وجهي وجدت نفسي أمام نهرٍ وما كان أمامي خيار آخر سوى اختراقه فلم أتردد وبعد أن غمرت مياهه أغلب جسمي حتى الرقبة عرفت أنه ليس بالنهر العميق ولكنه كان يضربني بعنف. إلا أن قوتي الجسمانية أحالت دون وقوعي في الماء وبعد صراع قصير بين مياه النهر وبيني تمكنت من الوصول الى الجانب الآخر .وما أن قطعت النهر حتى أحسست بأن قواي خارت ولكن إصراري مدني بالطاقة فتخلصت من تعبي وانطلقت مسرعاً باتجاه المحطة التي سيتوقف القطار عندها وبعد تعب وجهد مظنين وصلت هناك وكانت ثيابي التي كنت أرتديها قد جفت تقريباً من جراء العدو السريع للوصول الى المحطة المنشودة ولكن القطار البطيء كان قد وصل قبلي .وبينما أنا مسرع لأدخل القطار ، رآني شيخ مسن من نافذة القطار كان جالساً لوحده فارتى الشيخ الوقوف أمام باب القطار ليمنعه من تقليص فرصتي في الصعود ولينهي متابعي في اللحاق المظني به والركض المسرع خلفه وهكذا دخلته منهكاً وشكرت ذلك الشيخ على مساعدته بعد أن حييته بابتسامة استهلكت أغلب طاقتي المتبقية.
جلست الى جوار هذا الصديق المسن وأنا أحاول استعادة أنفاسي وما كدت أبتدأ بعض الحديث مع هذا الصديق الغريب إلا وجاء جابي القطار وطلب أن أبرز بطاقة السفر ففعلت كما أراد فأضاف وهو يرمقني بزاوية عينه،إسمك عبو فقلت وكيف عرفت..! قال،إسمك مكتوب على بطاقة السفر فلا أحد يستطيع ركوب هذا القطار إن لم تجمع كافة المعلومات عليه ،حينها فقط تذكرت لماذا طلبوا مني جواز السفر وسألوا عن مكان إقامتي ومكان ولادتي وعن ديانتي وانتمائي وعشيرتي ووو... عندما حجزت تذكرة السفر..
أخذ الجابي الجواز وتذكرة السفر ثم عاد بعد قليل وطلب مني مرافقته فقلت الى أين فقال الى حيث يجلسون فقلت ومن هم فقال ستعرف حينها
وهنا أشار لي الشيخ المسن وعلى وجهه غيمة بؤس وحزن أن أذهب معه ففعلت.دخلنا الجابي وأنا الى حجرة شبه مظلمة كان يشغلها ثلاثة أشخاص وقبل أن أحييهم إبتدأوا بالسؤال:ما إسمك؟قلت:عبو.
من أين أنت؟من باعذرة.
آه ه..يعني كريف. قلت لا إنما ايزيدي.
الى أي حزب تنتمي؟قلت وما علاقة هذا كله بهذا القطار..؟ما علاقة إسمي وإقامتي وديانتي وانتمائي ولماذا كل هذه الأسئلة؟فأجابني قائلاً:ليس من حق كل من هب ودب أن يسافر بهذا القطار وحينها سألت:ومتى يصل القطار الى.... فقاطعني أحدهم بعبارة الله أعلم...! خرجت من تلك الحجرة متوجهاً الى حيث كنت أجلس مع ذلك الشيخ الجليل وأنا أجتر أفكاري وأحلامي التي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً.وبينما كنت أضرب أخماساً بأسداس وصلت الى حيث كان صديقي الشيخ فسألته لماذا تجلس هنا في هذا المكان الضيق وهناك مكان واسع لا يجلس فيه سوى ستة أو سبعة أشخاص .قال لأنه المكان الوحيد الذي يحق لنا الجلوس فيه أنت وأنا، ثم أشار بيده الى ما كان مكتوب على تلك الر دهة:
(صالة الاجتماعات /الدخول للمثقفين والسياسيين والفنانين حصراً)
تنهد بعدها الشيخ وحط يده على كتفي وطلب مني أن أغني قليلاً فقلت بكل سرور وأخرجت تنبورتي وبدأت أعزف أغنية ( دنيا بوكه ) وبعد أن إنتهت الاغنية صفق لي الشيخ الجليل وكل من كان جالساً في الردهة المجاورة باستثناء شخص واحد كان يرتدي الزي الكوردي ويمسك بيده عكاز ( كوبال ) ، هو الوحيد الذي لم يصفق ولم يتأثر بالاغنية وبالموسيقى بتاتاً علماً أنه كان الوحيد من بين الجالسين في تلك الردهة الذي فهم نص الأغنية لأن الباقي كلهم كانوا من دول أجنبية وكانت لغة الحوار بينهم هي اللغة الانكليزية. وحتى الجابي كان منسجماً مع الأغنية وكان ذلك جلياً في حركة قدمه المتفقة مع إيقاع الأغنية ومع ذلك فإنه لم يصفق ربما لخوف كان في نفسه.بدى لي الجو غريباً جداً في ذلك القطار فهناك أسرارٌ تكتنف مواعيد المغادرة والوصول وكبت في صدور راكبيه وأشياء أخرى لم تسفر اللحظات عنها شيئاً بعد. ورغم كل ذلك فإن في نفسي عطش لمعرفة ما يخفيه الستار عني. فبدأت أستفسر عن الاشياء وسألت قبل كل شيء عن ذلك الشخص المبهم الجالس وحده وبيده العكاز الخشبي فأجابني الشيخ بأنه يمثلنا جميعاً وهو يشير الى نفسه تارة والي تارة والى من لم يحضر ثالثةً وقال أنه يجلس لوحده لأنه لا يتقن فنون التعامل ويجهل عن الاشياء أشياء عنها ولا يتكلم إلا الكوردية.فسألته :ولماذا هو هنا إذاً وفي هذا المنصب فقال لأنه يعرف صاحب القطار وله علاقات قوية مع من يعمل فيه ولا ضرورة في أن يتقن أكثر من ذلك فقاطعته قائلاً بأنني غنيت بالكوردي ولابد أنه فهمني أم أن صوتي ربما لم يعجبه..! قال بأنه فهم كل كلمة غنيتها ولكنه لاحظ أنك تغني باللهجة الكورمانجية وهذا يعني أنك أيزيدي وأضاف بأن الأغنية كانت عن لالش وهذا ما لم يرق له البتة .فهمت ما كان يرمي اليه الشيخ ونظرت الى الساعة فرأيت أنها تشير الى الواحدة والنصف وكان من المفروض أن يصل قطارنا في الواحدة فسألت الشيخ ألم نتأخر قليلاً فقال المفروض شيء والمطلوب شيء آخر.والمطلوب إثباته هو ما يعمل به وليست هنالك أية إعتبارات أخرى على هذا القطار.
وقف القطار فسالت الشيخ عن السبب فقال ربما لان السائق تعب قليلا ويريد ان يشرب فنجان قهوة,قلت ولكن هذا المكان ليس مخصصاً للوقوف او للاستراحة فهو يقف في مكان مخالف للسير؟قال الشيخ هو يقف اينما شاء فلا توجد عليه رقابة وهو يفعل ما يشاء.
الا تعلم شركة السكة الحديدية والسلطات بهذا الخصوص؟كان هذا سؤالي فأجاب بالتاكيد لا لأنهم إن علموا سوف يفصلونه بالتاكيد وقال أن المشكلة هي أن كل الذين يعملون في هذا القطار متفقين على هذه الفوضى.
تحرك القطار وبعد قليل وصلنا الى المحطة التي تليها حيث وقف القطار فقال لي الشيخ فلنخرج لكي نستنشق بعض الهواء النقي لان الهواء في القطار غير نقي.
جلسنا انا والشيخ في مكان انتظار المسافرين فرأيت اربعة اشخاص حاملين لافتات مكتوب عليها شعارات جميلة جداً فسالت الشيخ عن ما يجري وماذا يفعل هؤلاء الاشخاص ولماذا يقومون بتبديل هذا الشعارات؟
فقال أنهم يقومون في كل محطة بتزين هذا القطار من الخارج لكي يظهر بمظهر جميل وبراق فهذا هو المهم.
وبينما كنا واقفين وقف قطار في الإتجاه الآخر فنظر اليه الشيخ وفكر قليلاً ثم قال لي سوف انصحك نصيحة لأني لا اريدك ان تخطأ نفس الخطأ الذي وقعت فيه حيث كنت في نفس عمرك اول ما صعدت هذا القطار. فقلت تفضل .قال: اعتقد انك ركبت القطار الخطأ واخترت الاتجاه الخطأ,وانا انصحك ان تأخذ الاتجاه الاخر فقلت له ولكن لا يوجد متسع من الوقت للحاق بالقطار الاخر فقال حاول وأبتسم بوجهي مشجعاً.ادركت ما قاله الشيخ الجليل وقلت له حسناً يا سيد......؟ قال يوحنا فابتسمت له وعرفت كل ما حصل له بمجرد أن ذكر لي اسمه وما كان سوف يحصل لي لو كنت قد بقيت فركضت مسرعا الى الاتجاه الاخر.وبينما كنت أعبر القطار الذي كنت فيه متجها الى الطرف الاخر قرأت ما كان مكتوباً على مقدمته أي في واجهة القطار فقد كان يحمل إسم يعرفه الجميع هو: (فضائــــــــــــية كوردستــــــــان).
ركضت مسرعاً لألحق بالقطار الاخر الذي كان وشيك الانطلاق والذي كانت مكبرات الصوت قد اعلنت عن انطلاقه وكان الجابي قد اطلق صفارته والذي كاد ان يغلق اخر ابوابه لو أنه لم يلمحني من بعيد وانا متوجه بكل سرعتي لأخر الابواب التي لم تسد..وحين لامست الباب ورأيت الجابي كان يقف عليه كي يمكنني من الوصول الى القطار رغم تأخري ، أحسست حينها بمشاعر غريبة مشاعر تجمع بين الحزن من جهة وبين الفرح من جهة اخرى فقد كنت مبتسماً للجابي وكانت دموعي قد ودعت مقلتي..حزين لأن القطار الذي كنت على متنه لم يوصلني الى من احببت الوصول اليهم .لم يوصلني الى الشعب الطيب الذي طالما غنيته له وعنه. وفرح لأن الجابي الذي لم يكن يعرف عني شيئاً سوى انه رأى البزق معي والرغبة في حركتي فأعطاني فرصة اللحاق بالقطار الذي لم اكن احمل حتى بطاقة السفر به.فسألني الجابي عن دموعي فاستأذنته أن يسمح لي ان اجيب على سؤاله بالفن والموسيقى فهز رأسه موافقاً فأخرجت بزقي وبدأت ادندن. وبينما كنت اغني منعتني من الرؤيا دموعي وما ان انتهيت من غناء اغنيتي (دنيا بوكة) حتى سمعت تصفيقاً وصفيراً وهتافات تشجيع فمسحت الدموع من عيوني ورأيت جمعاً من الناس يدنوني وكل يريد أن يسألني عن معنى كلماتي وهم لم يفهموا منها شيئاً وما كانوا من قبل يعرفوني فشكرت الجمع واعتذرت من الجابي وقلت له ان سامحني يا سيدي فقد اضعت في طريقي كل ما كان معي ولم يبقى لي حتى ثمن تذكرة السفر فقال والدموع في عينيه: ان صوتك بطاقة سفرك وان غناه يغنيك حتى لو كنت فقيراً. وقال ان الذي يقتل الفن انما لا يحمل للإنسانية ما يمكن ان يرقيها.ورحب بي في القطار المتوجه الى قلوب الجماهير والذي يركبه كل من يحمل في جعبته فناً وآداباً ومشاعر إنسانية وقدم لي كوباً من الشاي وبعض الحلوى وأبتسم ليكمل عمله.
وبعد أن فكرت قليلاً بالقطار الذي تركته لتوي وقمت باجراء مقارنة صغيرة بين القطارين وبين صاحب العكاز في ذلك القطار والجابي في هذا القطار المريح السريع تذكرت المثل الانكليزي القائل:(ليس أحد أشد عماً من أولئك الذين لا يريدون أن يبصروا..وليس أحد أشد صمماً من أولئك الذين لا يريدون أن يسمعوا .)وفي غمرة هذه الافكار نظرت من النافذة فإذا بنا قد وصلنا الى المحطة التي كنت قد إنطلقت منها رغم أن الزمن الذي إستغرقته رحلة العودة لم يكن يساوي ربع زمن رحلة الذهاب فشتانا بين القطارين ووجهتهما والمسؤلين عليهما والمبادىء التي يطبقها كل منهما.
بقلم / الفنان عبو شيخ فرمان