في الشعر , كما الحياة , يصح تطبيق عبارة / برناردشو / : " اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية " لسبب هام وهو انا الشعر وليد أحداث الحياة , وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب احداثها ولا نماذج معينة للالوان التي تتلون بها أشياؤها واحاسيسها . ولا تناقض بين هذا الرأي وما يقسم اليه النقاد الشعر من مدارس ومذاهب حين يقولون " كلاسيكس , رومانتيكي , واقعي , سريالي , رمزي "
فهذه كلها ليست قواعد وانما أحكام .
ويقولون : ما اللغة ؟ وأية ضرورة الى منحها آفاقاً جديدة ؟ فينسون ان اللغة ان لم تركض مع الحياة ماتت . والواقع ان اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الايحاء التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التي تملأ أنفسنا اليوم . وما زلنا أسرى , تسيرنا القواعد التي وضعها اسلافنا وما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الاوزان القديمة وقرقعة الالفاظ الميتة .دون أن يدركوا ان شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين . ذلك ان الشاعر باحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق ’ يمد للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها فلا يسيء الى اللغة انما يشدها للامام .
الشاعر أو الاديب :اذن هو الذي تتطور على يديه اللغة اما النحوي واللغوي عليهما واجب واحد هو الملاحظة واستخلاص قواعد عامة من كلام " المرهفين " من الكتاب والشعراء . ولكن سيكون على الأديب بلاضافة الى خرق القاعدة واضافة معاني, يجب ان يدخل تعبيراً جوهرياً على القاموس اللفظي المستعمل في أدب عصره . فيدخل الفاظاً جديدة لم تكن مستعملة . وذلك لان الالفاظ تخلق كما يخلق كل شي يمر عليه اصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة والاستبعاد عن الالفاظ التي كثر استعمالها لان الاذن البشرية تمل الصور المألوفة والاصوات التي تتكرر وتجردها من كثير من معانيها وحياتها .
القافية : القافية الموحدة تضفي على القصيدة لوناً رتيباً يمل السامع فضلاً عما يثير في النفس من شعور بتكلف الشاعر وتصيده للقافية . ومن المؤكد ان القافية الموحدة قد خنقت أحاسيس كثيرة . وتشكل " العائق " فما يكاد الشاعر ينفعل وتعتريه الحالة الشعرية لكن سرعان ما تتقلص هذه الحالة وتهد فورتها ويمضي الشاعر ليصف الكلمات ويرص القوافي دونما حس بعدما يوزع ذهنه بين التعبير عن انفعاله وبين التفكير في القافية ! وهناك شعراء يختارون القافية ثم يكتبون البيت وفقاً لها .لكن من حسن الحظ ان شعرائنا المعاصرين قد استخفوا بسلطان القافية وخرجوا عليه فاستعملوا نظام الرباعية وأشباهها .
القوة الايحائية والابهام في الشعر : ان اللغة العربية لم تكتسب هذه القوة لان كتايها لم يعتادوا استغلال القوى الكامنة وراء الالفاظ استغلالا تاما الا حديثاً وربما كان ذلك هو السبب في جنوح الجمهور العربي الى استنكار المدارس الشعرية التي تعتمد على القوة الايحائية للالفاظ , كالرمزية , السريالية , على اعتبار ان هذه المدارس تحمل اللغة أثقالاً من الرموز والاحلام الباطنية والخلجات الغامضة , واتجاهات اللاشعور , ومثل ذلك لا تنهض به الا لغة بلغت قمة نضجها .
ذلك ان النفس البشرية عموماً , ليست واضحة وانما هي مغلقة بألف ستر. وقد يحدث كثيراً ان تعبر الذات عن نفسها باساليب ملتوية تثيرها الاف الذكريات المنطمسة الراكدة في اعماق العقل الباطن منذ سنوات يغلق عليها الباب حتى اذا آنس غفلة من العقل الواعي و أطلقها صوراً غامضة لا لون لها ولا شكل .
وليست مثل هذه الاحاسيس الغريبة حكراً على انسان دون اخر سوى ان التعبير عنها يختلف . فالانسان العادي يراها في أحلامه . أما
الفنان فيعبر عنها بفنه واحلامه معاً .فما دمنا لا نستغرب ذلك في حلم لماذا لا نتقبله حين يصف شاعر في قصيدة ؟
والابهام جزء اساسي من حياة النفس البشرية لا مفر لنا من مواجهتها ان نحن اردنا فناً يصف النفس ويلمس حياتها لمساً دقيقاً .والابهام ليس مقصوداً انما هو صورة من صور الحياة .
والواقع ان الذين يريدون الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة , اشبه بمن يعيش اليوم بملابس القرن الاول للهجرة ,
ونحن بين اثنين : اما ان نتعلم النظريات و نتأثر بها ونطبقها , أو الا نتعلمها اطلاقاً .
منقول من ديوان / نازك الملائكة